المشاركات الشائعة

الأحد، 12 ديسمبر 2010

النصح والنصيحة .... عن المنن الكبرى للشعراني

غلاف المنن الكبرى - طبعة مصطفى البابي الحلبي

بسم الله الرحمن الرَّحيم

قال الشعراني في الباب الحادي عشر من المنن الكبرى طبعة دار الكتب العلمية ص455-458 :

وممَّا أنعم الله تبارك وتعالى به عليَّ : محبتي لمن يبصرني بعيوبي ونقائصي ، وتقديمه في المحبَّة على الصديق الذي يداهنني ، ويظهر لي أنه يحملني على أكمل الأحوال ، وقد سألت الله تعالى لكل من نصحني وبصرني بعيوبي من إخواني أن يستره في الدنيا والآخرة ، وأنه يعطيه جميع ما يؤمله من خير الدنيا والآخرة ، فعليكم أيها الإخوان بنصحي ما استطعتم ، ولا تداهونني تغشوني وتغشوا أنفسكم ، ولا تراعوا خاطري ، وتقولوا في أنفسكم : كيف ننصح سيدي الشيخ ، وقد يكون له مقصدٌ صحيح ، لا يطَّلع مثلنا عليه ، فإن ذلك من تلبيس إبليس ، لأنكم إن كنتم تظنون فيَّ الكمال ففعلي ما يخالف ظاهر الشريعة يكذب ظنَّكم ، فإني لو كنت كاملاً ما فعلت شيئاً يخالف ظاهر الشريعة ، فما بقي إلا أني ناقص مفاسق بذلك الفعل ، فالواجب عليكم النصح إذا فهمتم عني مخالفتها بقولٍ أو فعلٍ ، فإما أن يكون فهمُكم صحيحاً فأرجع وتثابون ، وإمَّا أن يكون خطأ فأُظهر لكم خطأهُ فتستفيدونه وأُثاب .

وقد درج السلف الصالح كلهم من الصحابة والتابعين والأمَّة المجتهدين على التناصح لبعضهم بعضاً في الخلاء والملاء ، وأحثوا بعضهم بعضاً على ذلك .


وهذا الخلق غريب في هذا الزمان في المتصوفة فادَّعوا مراتب الكمال بالحال والقال ، ومهَّدوا لمن تتلمذَ لهم بساطاً وأعلموه أن مقام الشيخ كالسماء ، ومقام المريد كالأرض ، وأنه لا يحمِل حالَ الشيخِ على حالِهِ هوَ ، فسدُّوا بذلك باب النصح ، وربَّما ادعى أحدُهم أنه يحِبُ مَن ينصحه ، وهو غير صادق ، لأن ذلك لا يكون إلا لمن صحَّ له ثبوت القدم مع الحق جلَّ وعلا ، ورضي بقضائه وقدره ، ولم يلتفت لرضا أحد من عبيده ولا لسخطه ، وليمتحن من يدَّعي محبَّة مَن يَنصَحَهُ مِن إخوانه نفسَهُ بما إذا فَرَضَ كون اسمه مكتوباً في اللوح المحفوظ ، بأنه من الأشقياء المخلَّدين في النار ، فإن خيَّلت لهُ نفسُهُ رضاهُ بذلك عن الله عزَّ وجل ، فليمتحنها بأنَّها تتلمذ لعدوِّها ، وتنقاد له ، وتُظهِر ذلك للخاص والعام ، فإن انشرحت لأن تتلمذ لعدوِّها ، وتتقيَّد تحت أمره ونهيه وحكمه فيها وتقريعها وتوبيخها ، فقد انقادت إلى الله عزَّ وجل ، وصَحَّ له دعوى محبَّة النُّصح من إخوانه ، فإنَّ الانقياد إلى الخلق هو بابُ الانقياد للحق تعالى ، فمَن أَبَت نفسُه أن تنقادَ لجنسها ، أو تدخُلَ تحتَ حُكمهِ فيها ، فهو كاذبٌ في دعواه مقام كمال العبودية ، فكيف يطلب مجالسة الحق تعالى على بساط الأدب ، وهو لم يُحسِن مجالسة الخلق على بساط المُماثلة .

ثمَّ إنَّ الواقع في ذلك ، أي في كراهة النُّصح من إخوانه أحد رجُلين :

إما رجلٌ أشغله الله تعالى عن عيوبهِ بعيوبِ غيره ، فصار ممَّن أضلَّه الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ،
وإما رجلٌ ظنَّ بنفسه الكمال ممَّا ظَهَر له من كثرة الثِّقة بحالِه ، والتعشُّق بمطلوبه ، فهذا هالك مع الهالكين من حيث لا يَشعُر ، وقد قال تعالى في من أبى النُّصح : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206] .

وسمعت أخي الشيخ أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول :

"ربَّما يظن بعض المتمشيخين بنفسه حين يعِظ الناس ، أو يُسَلِّكهُم ، أنه صارَ بذلك من نوَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرشاد أمَّته إلى فعل الخير ، وهو في ذلك طالب للرياسة ، تحت أسر شهوة نفسه ، يظن أنه يستمد فيما يعظ به من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، والحال أنه يستمد من الشيطان ، فإن شأن من كان يحب نفسَهُ أن روحانيته لا تأخذ علماً إلا من روحانية إبليس الأول ، فيصير إبليس يمدُّه بالعلوم ، ويوسوس له محبَّةً في اجتذاب قلوب الناس إلى صحبته ، دون أقرانه ، ويصير رعاع الناس الذين حوله يقولون : إن سيدي الشيخ قد أحيا معالم الشريعة ، ولولا هو في هذا الزمان لاندرست الشريعة ، فيغتر هو بذلك القول ، ويزيد في تحسين الظن بنفسه ، فيهلك مع الهالكين .

ثم لو قُدِّرَ أنَّ أحداً من الحاضرين نَسَبَهُ إلى حبِّ الرياسة ، تكدَّرَ كلَّ التكدُّر ، وقام عليه تلامذته حتى أخرجوه من دائرة الإسلام ، وربما ضربوه ضرباً مبرحاً ، وذلك حرام بإجماع المسلمين ، قال : وقد اجتمعت بشخص من هؤلاء فنصحته ، فما سلمت من الضرب بالنعال إلا بجُهد ، وفي الحديث " لا تقوم الساعة حتى تجلس الشياطين على المنابر يعظون الناس" انتهى .

فليحذر الواعظ للناس من مكايد النفس والشيطان ، وليمتحن نفسَه بالمشي على طريق السلف الصالح الذين يَزعُم أنَّه على قدمهم ، فقد قال مالك بن دينار رضي الله تعالى عنه يقول : مَن أرادَ أن ينظر إلى مُراءٍ فلينظر إليَّ ، وقالت له مرَّةً امرأة يا مُرائي ، فقال لنفسه : اسمعي اسمك الذي أضلَّه أهل البصرة ، وعرفته هذه المرأة .

وكان سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه يقول لأصحابه : انصحوني ، وإياكم أن تقتدوا بأفعالي ، فإنِّي رجل قد خلَّطت في أموري .

وسمعت أخي الشيخ أفضل الدين رحمه الله تعالى يقول :

" إياكم أن تغترُّوا باجتماع الناس عليكم وانقيادهم لكم ، فتعتقدوا أنكم صرتم من مشايخ العصر ، لا سيما إن جثت تلامذتكم بين يديكم على الرُّكب ، وأكثروا من الإطراق ، وعدم التكلُّم ، وإن طالت الجلسة فإن ذلك استعباد لاخوانكم ، وسيادة لنفوسكم ، وانصحوا إخوانكم من غير تمييز ، واقسموا عليهم بالله أن ينصحوكم ، وإيَّاكم أن تمكنوهم من تقبيل أيديكم وأرجلكم بعد ختام المجلس ، فإن في ذلك قيام النَّفس ، وإيَّاكم أن تتكدروا من نصح تلميذكم لكم ، بما يظهر له من الحق ، وتأمَّلوا في آداب الصحابة ، ونصحهم لبعضهم بعضاً حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وقد وقع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أراد أن يبشِّر أمَّته ، فقال له عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه : " يا رسول الله لا تفعل ، دعهم يعملوا ولا يتكلموا" فرجع النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى قوله " انتهى .

وقد تقدَّمَ في هذه المنن ، أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله تعالى عنه خطب الناس فقال : " أيها الناس اسمعوا ما أعظكم به ، فقال حذيفة : كلا والله لا نسمع لوعظك ، فقال له عمر : لم؟ فقال : لأنَّ عليك قميصين وعلى كلٍّ منا قميص ، فنادى عمر بأعلى صوته ولده عبد الله ، فقال : أنشدك بالله أما هذا قميصك ؟ فقال : اللهمَّ نعم ، فقال له حذيفة : فقل الآن نسمع لك " انتهى .

وتأمَّلوا أيها الإخوان فيما قصَّه الله تعالى علينا في الكتاب والسنَّة ، من قبول نصح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من خدَّامهم ، ومن رعيتهم ، كاستشارة موسى عليه الصلاة والسلام لفتاه ، وكنصح النملة للسيِّد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسَّلام ، وكنصح يوسف لأبيه يعقوب عليهما الصلاة والسَّلام ، وذلك أن يعقوب لمَّا بلغه أن الملك أخذَ ولده بحيلة الصواع ، أن الملك هو يوسف، كتب يعقوب كتابا فيه :

"
بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله، إلى عزيز مصر، سلام عليك، أما بعد: فأنا أهل بيت خص بنا البلاء فأما جدي إبراهيم فألقاه النمرود في النار، فمكث فيها أربعين يوما، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأما أبي فابتلي بالذبح، ففداه الله بالكبش، وأما أنا فكان لي ولد أحبه، وآنس به، فأخذه الملك على أنه سارق، فالله الله في ابني، إني لم أسرق، ولم ألد سارقا والسلام."

فكتب إليه يوسف على ظهر الكتاب

 "
بسم الله الرحمن الرحيم من عزيز مصر إلى يعقوب إسرائيل الله، أما بعد فقد عرفنا شأنك وشأن آبائك، فاصبر كما صبروا، كي تظفر كما ظفروا، فرجع يعقوب بهذا القول إلى الأصل الحق، ووطَّن نفسه مع الحق تبارك وتعالى على الصبر" .

وكذلك بغلنا عن الخلفاء الراشدين أنَّهم كانوا يستدعون النُّصح من علماء زمانهم وبعضهم طلب ذلك بشروط ، هذا مع قيام ناموسهم ، وعدم رياضة نفوسهم ، فكيف يتكدّر مِن ذلك مَن يدَّعي الرياضة والسلوك .

وبلغنا أنَّ الأصمعي لمَّا أراد مجالسة هارون الرَّشيد ، قال له هارون ناصحاً له : اعلم أنَّك أعلم منَّا ، ونحنُ أعقلُ منك ، فلا تُعلمنا في ملأ ولا تُذكِّرنا في خلا ، واتركنا حتى نبتدئك نحن بالسؤال ، ثمَّ إذا بلغت في الجواب حد الاستحقاق ، فإياك أن تزيد إلا أن تستدعي ذلك منك ، وإذا رأيتنا خرجنا عن الحق ، فأرجعنا إليه ما استطعت من غير تقريع على خطئنا ، ولا اضجار بطول التردد إلينا ، خوفاً أن تهون في أعيننا فلا نصير نعتني بقولك ، ثم قال هارون :

"اعلم يا أبا سعيد أنه لن تهلك أمَّةٌ مع التناصح ، ولن يهلك ملك مع الاستشارة ، ولن يهلك قلب مع التسليم " انتهى .

وسمعت سيِّدي علياً الخواص رحمه الله تعالى يقول : الزموا النصح والاستشارة لإخوانكم في كلِّ أمرٍ مهم ، فإن النُّصح والاستشارة بمنزلة تنبيه النائم أو الغافل ، وكان يقول :

"من شأن العاقل أن لا يتكدَّر من النَّاصح له إذا خرجَ عن حدِّ الأدب ، ولم يُراعي ألفاظ التفخيم ، وليقس قبيح ما وقع منه مِن الألفاظ القبيحة في نفعه بالنُّصح له ، فما كل الناس أُعطوا السياسة ، وحيث وجد العبدُ النفع فلا مبالاة بفوات حظ النَّفس من محبَّتها اللين في الكلام " انتهى .

وكان يقول :

" من أدب الناصح أن يستشير المنصوح في النصح قبل النُّصح ، كما درج عليه السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم ، فإنَّ النُّصح من غير استشارة خاص بكُمَّل العارفين الذين لا يُداخل نصحهم ظن ولا شك ، لما هُم عليه من الكشف الصحيح ، ولا يرون نفوسهم على المنصوح ، ولا عليهم من المنصوح إن قبِلَ ذلك أم لم يقبَل ، إنَّما قصدهم امتثال الأمر ، ونفع العباد فقط ، ثم إنَّ الأحكام الإلهية تجري على حسبها ، فلا يُقال : إنَّ النُّصح فيه منازعة للأقدار الجارية على الخلق ، لأنَّ الحُكم على الشيء قبل ظهور عينه لا يصح ، وإنَّما النُّصح بمنزلة تنبيه النائم من النوم كما مر ، واستيقاظه من غفلته ، والنكتة في مشروعية ذلك أنَّ الله تعالى أفقرَ الخلقَ إلى بعضهم بعضاً ، حتى لا يتَّكل أحدٌ على رأيه دون أخيه ، وإن كان المنصوح غنياً عن نُصح النَّاصح ، أو إشارته ، إذ المراد الاعتراف بظهور الافتقار إلى الخلق ، ليقع افتقارهم إلى الله تعالى ، باطناً من باب أولى " انتهى .

فَعُلم مِن جميع ما قررناه أن مَن تكدَّر ممَّن نصَحَهُ ، أو طلبَ أن لا ينصحه إلا مَن يَعرِف أَدَبَ الخطاب فاته خيرٌ كثيرٌ ، فافهم يا أخي ذلك ، والله تبارك وتعالى يتولَّى هداك ، وهو يتولَّى الصالحين ، والحمد لله ربِّ العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق