المشاركات الشائعة

الأحد، 12 ديسمبر 2010

نعرف الرجال بالحق ، ولا نعرف الحق بالرجال ... من مقال للشيخ حسن هيتو


لقد كنت أتكلم في موضوع علمي مهم ، يتعلق بالعقيدة فبحثته من جميع جوانبه  ، وبينت أقوال العلماء فيه ثم عرضت لرأي ابن القيم – رحمه الله – في الموضوع ، وكان مما انفرد به عن عامة المسلمين ، وبيّنتُ خطأه فيه ، ووجّهْت ذلك بالدليل والبرهان لكي لا يكون في الأمر لبس أو شبهة ، وإن كان لا يحتاج إلى دليل ، لأنه مما كاد يكون معلوماً من الدين بالضرورة

رسالة على المكتب ؟

وفوجئت بعد يومين برسالة على مكتبي من أحد الطلبة ، يشكر فيها اهتمامي بالمحاضرات وأثري في الطلاب ويثني ويؤكد الثناء بالثناء ، ثم قال : بلغني أنك تعرضت في المحاضرة الماضية لابن القيم ، وبينت خطأه في الموضوع الفلاني ، وليتك لم تفعل ، لأن أحد الطلبة ، ممن كان يكن لك المحبة والاحترام ، قد آلمه ما ذكرت عن ابن القيم ، لأنه يحبه ، ونشأ على كتبه ، ومن ثم قال : إنك سقطت من عينه ، إذ أبنت خطأ من يحب ...؟! طويت الرسالة ، ولم يكن ما وجدته فيها مفاجأة ، لأني عهدت من قبل مثل هذا الخلق في بعض من ينتسب إلى الدعوة ...

 

المنهج الوسط في النقد

ثم دخلت إلى قاعة الدرس ، وافتتحت بما يمس هذا الموضوع ، مما يجب أن يعلمه كل داعية مسلم ، وينتبه له ، فقلت إننا نحن المسلمين ، من علماء ... ودعاة ... ومفكرين ... عندما نثني على إنسان ما ، في موضوع ما ، لا نعني أن هذا الإنسان معصوم عن الخطأ ، ومصيب في كل ما أتاه من عمل ، وإنما نريد الثناء عليه ، فيما عرضنا له من موضوع الساعة ، أو على مجمل خلقه وسيرته ، وعندما ننقد إنساناً ما ، في موضوع ما ، لا نعني أننا نريد انتقاص هذا الإنسان ، ونفي صفة العلم عنه إذا كان عالماً ، أو صفه الداعية إذا كان داعية ، ولا نريد أن نحط منزلته ، وإنما نريد أن نبين أنه أخطأ في المسألة الفلانية ، مع المحافظة على ماله من مكانة في العلم ، وتضحية في الدعوة ن وأثر في الفكر ، إذ النقاش والنقد حول فكرة معينة ، لا حول الرجل وفكره ودعوته .

العصمة لمن عصمة الله

ونحن المسلمين لا يوجد عندنا إنسان معصوم عن الخطأ ، أياً كان هذا الإنسان ، صحابياً ، أم تابعياً ، أم إماماً مجتهداً ، أم من عامة الناس ، سوى من عصمة الله تعالى من نبي أو رسول . وما سواهم ، يؤخذ منه ويرد عليه ، كما قال الإمام مالك - رحمه الله - " كل رجل يؤخذ منه يرد عليه إلا صاحب هذا القبر ، وأشار على قبره - صلى الله عليه وسلم - " ، يستوي في ذلك عندنا كل إنسان من المسلمين ، كبر شأنه أو صغر ، علت منزلته أو نزلت ، لأننا جميعاً خاضعون لشرع الله ، وهو الحاكم علينا ، ونحن نعرف الرجال بالحق ، ولا نعرف الحق بالرجال ، ونزن الإنسان بميزان الشرع ، ولا نزن الشرع بميزان الناس ، والدين عندنا غير منوط برجل ، لا يؤخذ إلا منه ، ولا يروى إلا عنه ، ولا يعرف إلا منه ، لأن ديننا جاء ليوجِّه الناس ، لا ليوجَّه من قبل الناس ، فما قاله أي إنسان في الدنيا نعرضه على مصادر التشريع ، فما وافقها أخذنا به ، وما خالفها أعرضنا عنه ، ولا يغيّر هذه القاعدة مكانةُ الرجل ولا منزلته .


الحق لا الرجال

وإنما يعرف الحق بالرجال عند غيرنا من الوثنيين . الذين اتخذوا من الرجال أرباباً من دون الله ، فـما رضوا عنـه ؛ فهو الحق وما سخطوا عليه فهو الباطل ؟ وإن كان في الواقع خطأ ، فأنزلوا الناس بمنزلة الله ، ولا كذلك نحن المسلمين ، وليس عندنا من يقال فيه  ، لا يسأل عما يفعل إلا الله ، أو من أوجب الله على الناس طاعته من نبي أو رسول .
وإن مما يخلّ بمكانه الرجل ، وينزل بمرتبته ، إن يوضع في منزلة غير منزلته ، فمن زعم أن زيداً من الناس معصوم لا يخطئ ، فقد وضعه في منزلة غير منزلته ، ألا وهي منزلة الله ، أو الرسول ، وهذا هبوط بالإنسان .
إذ الهبوط بالمرء عند العقلاء أن يوضع في غير موضعه ، علا الموضع أو نزل ، لقد جاء الإسلام ليخرج بالناس من عصبية الجاهلية المنتنة ، إلى سماحة الدين الغضة ، ومن التحيز لقبيلة أو جنس أو لون إلى العدالة والمساواة بين جميع الخلق .

النقد للإصلاح

ولقد علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينقد بعضناً بعضاً من أجل الإصلاح ، فجعل المرء مرآة لأخيه ، وأمرنا أن نقبل النقد ، لأن كل بني آدم خطاء ، ولقد علمنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون بسلوكهم العملي ، كيف يرضى الإنسان المسلم بما يوجه إليه من نقد ويستغفر مما كان قد وقع به من خطأ .

أسلوب الصحابة

لقد رد عبد الله بن عباس ، وهو من أصغر الصحابة سناً ، على أمير المؤمنين ، الفاروق عمر بن الخطاب - t - في كثير من مسائل العلم ، ولم يقل أحد من الناس إن ابن عباس أخطأ لأنه رد على عمر ... ، ولم يفهم أحد من الناس أن ابن عباس كان ينتقص عمر أو يحط من شأنه ، بل ردت عليه امرأة ، وأبانت عن وجه خطئه ، وقَبِل .
واستدركت عائشة – رضي الله عنها – على العشرات من كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يفهم أحد منهم أنها أساءت ، لأنها بينت خطأ أو وهم من أخطأ أو وهم ، ولم يفهم أحد من الناس أنها كانت تنتقصهم ، أو تحط من شأنهم .

بين الشافعي ومالك

ورد الشافعي على مالك ، في كتاب كامل " كتاب الوضع على مالك " ولم يقل أحد إن الشافعي أساء ، أو أنه انتقص مالكاً ، كيف...؟ وهو القائل فيه : إذا ذُكر العلماء فمالك النجم ، وكان تلميذاً له ، تفقه عليه ، ورَوَى عنه ، لأن الأمر ليس أمرَ شخص ، وذات ، وهوى ، وإنما هو أمر دين يستوي فيه قَدَمُ الجميع ، والحق أحق أن يتبع .

بين القاضي والشافعي

لقد كان القاضي عبد الجبار من أشد الناس تمسكاً بأصول الشافعي ، شديد الدفاع عنها ، ولما وصل إلى مسألة نسخ الكتاب بالسنة – والشافعي يقول : لا ينسخ الكتاب بالسنة ، ولا السنة بالكتاب ، في مذهب خاص له ، انفرد به عن جمهور الأصوليين ، وعلى تفصيل فيه ، ليس هذا مكانه – عندما وصل القاضي إلى هذه المسألة قال : الشافعي كبير ، والحق أكبر منه ، ألا إن القرآن ينسخ السنة ، والسنة تنسخ القرآن ، ولم يقل أحد من الناس إنه أساء ، وإنما قالوا ، ولا زالوا يقولون ، إن القاضي من أشد الناس تمسكاً بأصول الشافعي ، إلا أن القاضي أنزل الشافعي منزلة البشرية ، ورد عليه فيما يعتقد أنه خطأ ، ومن قرأ كتب فقهاء هذه الأمة وجد أمراً عجباً من حرية الرأي – ضمن الضوابط والقواعد العلمية – وحرية النقد والاختيار ، ما لم يكن هوى .
بين الأمس واليوم

وكان هذا دأب سلف هذه الأمة ، وخلفها ، من العلماء ، والدعاة ، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه من عصبية ، كادت وللأسف أن تذهب برواء كثير ممن يتكلمون في هذا الدين ، ويدعون إليه .
الرأي والهوى

فوصل بعض الشباب إلى مرحلة ، إذا تقلد فيها رأياً ، عَمِيَ عما سواه ، وأصم أذنه عند سماعه ، وكأنه أوحي إليه أن الله قد جمع الحق في هذا الذي أُشرب قلبه بمحبته ، فهو ليس بمستعد لسماع أي نقد ، أو أي نصح ، أو أي اعتراض ، ومن ثم فهو ليس على استعداد لأن يعتقد أن هذا الذي اعتقد رأيه قابل للخطأ...؟
بعض الشباب قرأ لسيد قطب – رحمه الله - ، وأسكنه فسيح جناته – وتعشق كتبه وأفكاره وإلى هنا نعتبر هذه فضيلة ، ونقبـلها ، إلاّ أنه وصل الأمر ببعضهم إلى ما ذكرت ، مما وصفت من العصبية المفرطة لكل ما قال ، وهذا لا نقبله .
 وبعضهم قرأ لأبي الأعلى المودوري – رحمه الله ، وأسكنه فسيح جنته – وصار أيضاً أمره كما ذكرت .
نحن لا ننكر أن سيداً ، وأبا الأعلى وغيرهما ، قد أثروا المكتبة الإسلامية بتراث فكري كان ينقصها ، وسدوا ثغرة من ثغر العلم ، وجهروا بمبادئ الحق ، وزيّفوا أباطيل الخصوم ، وجزاهم الله عن كل من قرأ لهم واستفاد منهم خيراً .
إلا أن هذا لا يعني أنهم معصومون ، بل هم من بني آدم الذين قال فيهم رسول الله " كل بني آدم خطاء ..." .
وربما جاء من بعدهم يساويهم ، بل يفوقهم ، وفضل الله واسع ، يؤتيه من يشاء ، ولكل مجتهد نصيب ، ولم يخل ذلك بمرتبتهم ومقالهم ، فإذا ما سمعنا اعترضا على أحدهم ، ممن ألِفنا و أحببنا ، لا يجوز أن نرد الدعوى والاعتراض ، لأنه قائل الكلام فلان ، فلا أعترض عليه ، ولا يخطئ ، بل نسمع الاعتراض ، ونناقشه ، فإما أن نقتنع ، وإما أن نقنع .

الفكرة لا أصحابها

والجدل يجب أن يدور حول الفكرة المعترض عليها ، لا حول قائلها ، لأن قائلها لم يقل هذه الكلمة فقط حتى يصبح رهيناً لها ، ولن ينقصه أن يثار حول بعض آرائه الجدل ، لما ذكرت من سلوك سلف هذه الأمة وخلفها ، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق